
في خضم اتساع دائرة الجدل حول حدود الممارسة الإعلامية، ارتفعت أصوات تدافع عن حق الصحافة في النبش والتعرية، على اعتبار أن وظيفتها الأولى هي "أخذ الخبر من فم السبع" وتقديمه للجمهور "عاريا". هذه الأصوات، التي رفعت شعار "كلنا مع هذا الإعلام الجريء"، تضعنا أمام سؤال أعمق وأكثر خطورة، هل أصبحت الجرأة مرادفة للتجرد من الأخلاق..؟ وهل وظيفة الصحافة هي أن تعكس واقعنا كما هو، دون أن تساهم في الارتقاء به..؟
إن الاختباء خلف مبدأ "السبق الصحافي" لتبرير الخوض في أعراض الناس وانتهاك خصوصياتهم هو تسطيح خطير لرسالة الإعلام، فالصحافة الحقيقية ليست مجرد نقل خام ومجرد للأحداث، بل هي عملية واعية من الاختيار والتحليل ووضع المعلومة في سياقها الإنساني والمجتمعي، ثم إن الادعاء بأن "الحقيقة" تبرر أي وسيلة هو مغالطة كبرى، فالطريقة التي يُقدَّم بها الخبر هي جزء لا يتجزأ من الحقيقة ذاتها. خبرٌ يُقدَّم بأسلوب يحترم كرامة الإنسان ويركز على العبرة والدرس يختلف جذرياً عن خبر يُقدَّم كوجبة فضائحية رخيصة تتاجر بآلام الناس ومآسيهم.
إن التناقض الصارخ الذي تتحدث عنه تلك الزمرة من المدافعين عن هذا النهج، ليس بين حرية الصحافة و"سدنة الأخلاق"، كما يصورونه، بل هو بين فلسفتين للإعلام، فلسفة ترى في الجمهور مجرد مستهلك متعطش للإثارة والغرائب، وأخرى ترى فيه شريكاً في الوعي، ومواطناً من حقه أن يحصل على إعلام يبني فكره، ويهذب ذوقه، ويعزز القيم الإيجابية في مجتمعه.
الدفاع عن حرية الصحافة لا يعني أبداً منحها صكاً على بياض لهدم جدار الخصوصية المقدس بين الأفراد.
أما المقارنة مع الإعلام الغربي في قضايا المشاهير فهي حجة واهية، تُغفل أن تلك المجتمعات تشهد نقاشات مجتمعية وقانونية لا تتوقف حول التجاوزات الإعلامية. والأهم من ذلك، أننا لسنا ملزمين باستنساخ أسوأ ما في تجارب الآخرين. مجتمعنا له قيمه وخصوصيته، وصحافتنا الوطنية يجب أن تكون مرآة لهذه القيم، لا أداة لهدمها باسم محاكاة عمياء لظواهر قد تكون مرفوضة حتى في سياقها الأصلي.
إن النجاح الحقيقي لأي منبر إعلامي لا يُقاس بأرقام المشاهدات التي تحصدها الفضائح، بل بمدى التأثير الإيجابي الذي يتركه في وعي الأجيال. وأن تكون "صوت الناس" لا يعني أن تردد صدى أسوأ ما فيهم من فضول وغرائز، بل أن تكون صوت ضميرهم، وصوت طموحهم نحو الأفضل. وإن تكسير العزلة مع الجمهور لا يكون بالنزول إلى مستوى القيل والقال، بل بالارتقاء بالنقاش العام، وطرح القضايا التي تهم مستقبل الوطن وتنمية.
الدفاع عن الصحافة ليس بالدفاع عن تجربة بعينها، بل هو دفاع عن المبادئ التي قامت عليها المهنة.. إنه دفاع عن حق المجتمع في إعلام مسؤول وجاد، إعلام يحارب الفساد لا أن يشيع الفاحشة، إعلام يحمي المجتمع لا أن يساهم في تفكيك روابطه.
إنها مسؤولية جماعية، ليس فقط على الصحافيين، بل على الجمهور أيضاً، أن يختار ويرفض، وأن يقول كلمته بوضوح، نريد إعلاماً يبني الإنسان، لا إعلاماً يقتات على سقطاته.