
قد تستطيع الحكومات أن تضبط رسائلها السياسية بدقة، لكن الإعلام الصادق يبقى خط الدفاع الأول عن الدولة نفسها. ففي زمن تتدفق فيه المعلومات بلا حدود، لم يعد ممكنًا إخفاء حقيقة أو تقليل وقعها. الإعلام وحده الذي يواجه جمهوره بالواقع، ويشرح له الاحداث بدلًا من إنكارها، ليستطيع أن يحافظ على مكانته وثقة الناس به.
وتظهر هنا المفارقة بين نيران الواقع وهدوء الشاشات انها ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل اختبار لمستقبل الإعلام المصري: هل يبقى مجرد صدى للسياسة، أم يصبح شريكًا في صياغة وعي وطني قائم على الحقيقة؟
ولا يمكن إنكار أن لكل دولة إعلام رسمي ووظيفة سياسية، وأن الدول في أوقات الأزمات تفضّل خطابًا يهدئ الشارع على خطاب يؤججه. لكن الخط الفاصل بين التهدئة والتهوين رفيع للغاية. فإذا شعر المواطن أن إعلامه يهوّن من المخاطر، فسيفقد الثقة به، ويلجأ إلى البدائل. أما إذا قدّم له الحقيقة كاملة، مع وضعها في إطار يشرح الموقف المصري وخياراته، فإنه يحافظ على المصداقية دون أن يضر بمصالح الدولة.
وعلينا ان ننظر الى الامر من خلال تاثير الاعلام على توجه المواطن ومدى ثقته فى اعلامه الوطنى .
ففى مساء محمل بتوترات اقليمية والالة الاعلامية عربية وعالمية حددت وجهتها الى قرب اجتياح غزة باكملها ..نجد اننا امام واقع اخر حيث استيقظت المنطقة على وقع مشهد غير مسبوق…
اعلنت اسرائيل من خلالة عمليًا أن لا أحد خارج دائرة الاستهداف. المشهد جلل، لكن من تابع بعض القنوات والصحف المصرية، شعر وكأن الأمر لا يتجاوز “غارة محدودة” أو “استهداف موضعي”، كأن الحدث لم يغير قواعد اللعبة في المنطقة. هنا تبدأ المفارقة: ما بين واقع يتسارع على وقع الدمار والنيران، وخطاب إعلامي محلي يفضّل الهدوء وتهوين الحدث.
إعلام يزن كلماته بميزان السياسة
منذ عقود، يتعامل الإعلام المصري مع الملفات الإقليمية بمنطق “التقدير السياسي قبل التحرير الصحفي”. فالمحرر قد يعرف أن الضربة الإسرائيلية تحمل رسائل تتجاوز قطر، وأنها تعني أن القاهرة نفسها “ليست بعيدة” عن دائرة التهديد كما قال نتنياهو صراحة، لكن نشر هذه الحقيقة بصيغتها الفجّة قد يربك حسابات الدولة التي تسعى للحفاظ على معادلة معقدة:
سلام رسمي مع إسرائيل قائم منذ أربعة عقود.
مصالح اقتصادية واستثمارات خليجية استراتيجية.
دور محوري في ملف الوساطة الفلسطينية.
بمعنى آخر، أي خطاب إعلامي شديد اللهجة قد يُنظر إليه كتصعيد مصري غير مرغوب فيه، يفتح جبهات سياسية ودبلوماسية في وقت حساس.
لغة محايدة.. ورسائل مطمئنة
ومن يتابع نشرات الأخبار أو يقرأ الصحف الصادرة في القاهرة بعد الضربة، يلاحظ غياب العبارات القوية مثل “عدوان” أو “تدمير”، واستبدالها بكلمات أكثر حيادًا مثل “غارة” أو “استهداف”. التركيز الأكبر لم يكن على خطورة أن إسرائيل كسرت حاجز “دولة عربية وسيطة”، بل على بيانات وزارة الخارجية المصرية التي دعت إلى “ضبط النفس” و”وقف التصعيد”.
هذا النمط يعكس سياسة واضحة: تقديم رسائل طمأنة للرأي العام الداخلي بأن “الوضع تحت السيطرة”، والتأكيد على أن القاهرة لا تزال تمسك بخيوط اللعبة الإقليمية عبر الوساطة.
الفجوة بين الشارع والشاشة
ولنا هنا واقفة غاية فى الاهمية للاجابة على السؤال الاتى:
– هل يقتنع الشارع المصري بهذه الصياغات المخففة؟
الواقع يشير إلى أن الجمهور يكفيه أن يفتح هاتفه ليرى الصور ومقاطع الفيديو من منصات عربية ودولية… وهى أكثر تنوعًا في مصادره التى يبحث من خلالها على حقيقة الاحداث ومجرياتها . فلم يعد المصري ينتظر القناة الرسمية أو الصحف الحكومية ليعرف ما جرى في الدوحة او فى اليمن او فى ايران .. او فى غزة او حتى فى القاهرة !
هنا تكمن الأزمة الحقيقية: حينما يلمس المتابع فجوة بين ما يراه وما يسمعه من إعلامه الوطني، فتتراجع الثقة في هذا الإعلام، ويتحول تدريجيًا إلى مجرد “صوت رسمي” لا يُعتمد عليه في قراءة الحقيقة.
وانا من خلال كلماتى لا انكر ان لكل دولة إعلام رسمي خاص بها له وظيفة سياسية، وأن الدول في أوقات الأزمات تفضّل خطابًا يهدئ الشارع على خطاب يؤججه. لكن الخط الفاصل بين التهدئة والتهوين بعيد للغاية وسط هذة الاله التى يجلس امامها وبضغطة بسريعة باصبعة يتجول بين مصادر عديدة تحكمها الصورة التى لايمكن ان تكذب .
لذلك اذا اكتشف او شعر المواطن أن إعلامه يهوّن من المخاطر، فسيفقد الثقة به، ويلجأ إلى البدائل. لذا لابد للاعلام الوطنى ان يقدم الحقيقة كاملة، لكنه يضعها في إطار مهم وواضح يشرح من خلالة الموقف المصري وخياراته للحفاظ الى امنه القومى ويعلم المواطن ان الاعلام القومى انما اراد ان يحافظ على المصداقية فى نقل وعرض الاحداث دون أن يضر بمصالح الدولة.
ونعود مرة ثانية الى ان الضربة الإسرائيلية في قطر لم تكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل إشارة إلى أن قواعد اللعبة تغيّرت، وأن المنطقة كلها باتت في مرمى النار. مصر، بما تمثله من ثقل جغرافي وسياسي، ليست بعيدة عن هذه الحسابات. وإذا كان على الدولة أن تتحرك وفق حسابات دقيقة، فإن على الإعلام أن يؤدي وظيفته المهنية: أن يصف الحقيقة بلا رتوش، أن ينقل الصورة كما هي، ثم يترك للمواطن أن يقدّر حجم الخطر حتى لايهرب الى مصادر اخرى قد يكون بعضها موجهه لايجاد فجوة بينه وبين واعلامه الرسمى يتسلل من خلالها فى توجهات دخيلة للاضرار بالجبهة الداخلية ووحدتها .. وثقتها فى اعلامها القومى.