ذهل الرأي العام الوطني بصور المشهد الصدمة الذي سالت فيه دماء الأساتذة على أيدي رجل الأمن ، أستاذات لم تشفع لهن أنوثتهن في إثناء "المخازنية" عن الضرب بقوة على أجسادهن الناعمة ، و بياض يشع بنورانية مقدسة لم يشفع في التخفيف من حدة ضربات الهراوة السوداء التي يرفعها الجلاد إلى أقصى عنان السماء لينزل بها بكل ما أوتي من قسوة على الرؤوس و الأعناق و عل كل بنان سولت له نفسه رفع إشارات الاحتجاج السلمي من أجل إسقاط مرسومين لا أكثر ...
سالت دماء الأساتذة و سالت معها منابر الإعلام المختلفة تعاليقا و انتقادات ، بين ساخط على رئيس الحكومة راسما إياه في صورة الجلاد المفترس الذي ينتشي بدماء الشعب، و بين ساخط على "المخازنية" باعتبارهم أولئك الكسالى الذين فشلوا في دراستهم و جاءت بين أيديهم فرصة ذهبية للانتقام من أولئك الذين كانوا قد كبدوهم أصفارا و عقوبات و علامات حمراء أحالت أحلامهم المرفرفة إلى حذاء مخزني ثقيل يبتلع إنسانيتهم و حريتهم ليصيروا مجرد آلة عمياء تستجيب و تنفد .
نعم رئيس الحكومة مسؤول أمام الله و أمام الوطن و أمام التاريخ عن الدماء التي أريقت ، و كان عليه أن يظهر على الأقل بمظهر المتأسف و الحزين أمام ما حصل معلنا عزمه على محاسبة المتجاوزين و الجناة،أما أن يستفز مشاعر المغاربة بقهقهته و رقصه فذلك إنما يدل على استهثار في شخصية السيد الرئيس ، بل و يدل على استهثاره بمستقبل حزب سياسي يعول عليه المغاربة ليكون على الأقل الأقلَ إضرارا بهم و الأكثر مساعدة لهم على التخلص من الفساد و الاستبداد ، لكن مع كل هذا و ذاك يبقى الرجل رقما مهملا في سلسلة مسؤوليات متصلة طويلة تشمل نظام حكم بكامله ، ليبقى ما يثار عنه في هذا الباب مجرد سخط افتدائي شعبي لا بد منه ، و هو إما سخط تلقائي غير واع بمجريات التحكم في البلاد و إما هو سخط موجه بإعلام يخدم خريطة الانتخابات البرلمانية المقبلة ، ليس بالضرورة حبا في فلان و لا شفقة من علان ...
أما ما يقال عن "المخازنية" الذين غلبوا من بعد ما غلبوا فإنه باب من السخرية المنفوخ في رغوة صابونها لتشكل مرة أخرى فقاعة يلتهي ورائها ملايين المغاربة، و يتسابقوا في التعليق و الوصف منصرفين بذلك عن وضع الأصبع على موطن الداء ، و هكذا فاختزال ما جرى في شخص بنكيران المغلوب على أمره أو في شخص المخزني المغلوب على أمره يعد سذاجة في التحليل أو يعد إغراضا متعمدا يراد منه ما يراد .
إن المدان هنا ليس فردا و لا جماعة ، و إنما المدان هنا هو فلسفة دولة بكاملها مازلت للأسف تعتمد فلسفة القمع و اللجم تجاه أفراد تعتبرهم مجرد قطيع حيوانات غير جدير بالحرية و الكرامة ، قطيع يُتصدق عليه ببعض من نسائم نسخ الحرية ليس حبا فيه لكن فقط لكي لا ينفجر برميل غضبه ، قطيع يُضرب كثيرا اليوم و تُسال دماؤه حتى إذا ما رفعت عنه الهراوة لبعض الدقائق شكر الجلاد و أنشد طربا قولته المشهورة : المغرب أجمل بلد في العالم ، نعم إن اليوم الجميل جدا عندنا هو ذلك اليوم الذي لا نضرب فيه كثيرا أو ذلك اليوم الذي لا نهان فيه كثيرا ، ننسى مطالب العمل الكريم و التقاعد الكريم ، و مطالب الترقي الاقتصادي و الاجتماعي لنتسول فقط سلة الأمان و سلة عدم الانجراح بألة القمع .
على هذا النحو إذن نصير للأسف متخلين يوما بعد يوم عن أحلامنا الكبيرة،متحدثين فقط عن ضرورة حقن الدماء النازفة و تضميد الكرامة المجروحة ،عوض التحدث عن ضرورة حقن الثروات المستنزفة و بناء مغرب يتقدم بخطوات مطمئنة علميا و اجتماعيا و اقتصاديا ...