
مصر بين البندقية وغصن الزيتون: قراءة في مسار السلام من ناصر إلى السيسي
رؤية وتحليل : علي خليل
منذ اللحظة التي انكسرت فيها الجيوش العربية في يونيو 1967، والعالم العربي يعيش حالة من الازدواج بين صوت البندقية وصوت السياسة. كانت مصر — بما تمثله من قلب العروبة وميزان المنطقة — في قلب هذا الصراع بين خيار الحرب ومقتضيات السلام.
ومع تعاقب القادة من عبد الناصر إلى السيسي، اختلفت الوسائل وتبدلت الأدوات، لكن الهدف ظل واحدًا: استعادة الأرض وصون السيادة وحماية الدولة المصرية من رياح الانقسام أو الذوبان في مشاريع الآخرين.
من ناصر إلى روجرز: بين الكبرياء والمناورة
بعد هزيمة 1967، وجدت مصر نفسها أمام عرضٍ إسرائيلي بإعادة سيناء مقابل اعتراف سياسي وتطبيع محدود. رفض جمال عبد الناصر العرض تمامًا، معتبرًا أن الأرض لا تُستبدل بسيادة منقوصة. كان يرى أن السلام في ظل الاحتلال إهانة تاريخية، وأن السلاح هو الطريق الوحيد لاستعادة الكرامة.
لكن مع طول أمد حرب الاستنزاف وضغوط الاقتصاد، وتراجع الدعم السوفييتي، أدرك ناصر أن المعركة تحتاج إلى نَفَس طويل وخطة مرحلية، فقبل مبادرة روجرز عام 1970 كتكتيكٍ سياسي لالتقاط الأنفاس وإعادة بناء الجيش، دون أن يتنازل عن مبدأ التحرير الكامل.
كانت تلك اللحظة — كما وصفها مقربوه — “هدنة المحارب”، لا استسلام الضعيف.
السادات… عبور نحو الحرب ثم عبور نحو السياسة
حين تولى أنور السادات الحكم بعد وفاة عبد الناصر، ورث دولة مثقلة بالهموم وواقعة بين جبهتين: شعب يريد الحرب، وقوى كبرى تضغط نحو التسوية.
اختار السادات أن يفاجئ الجميع بالحرب. فجاءت حرب أكتوبر 1973 لتغيّر وجه المنطقة، ولتُعيد الثقة للإنسان العربي بعد ست سنوات من الانكسار.
غير أن المفارقة الكبرى تمثلت في قرار السادات بوقف التقدم بعد عبور قناة السويس، رغم تفوق الجيش المصري في الأيام الأولى للحرب. نقل عنه وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر أن السادات قال له صراحة: “لن أتجاوز حدود معينة… أريد النصر السياسي لا الكامل العسكري.”
رأى بعض القادة العسكريين أن هذا القرار أفقد مصر ورقة ضغط كان يمكن أن تغيّر شروط التفاوض لاحقًا، بينما رأى السادات أن أي توغل عميق في سيناء كان سيجعل الحرب تتحول إلى فخ استنزاف جديد.
وفي عام 1977، اتخذ الخطوة التي هزت العالم العربي: زيارة القدس وخطاب الكنيست.
بين من رآها شجاعة نادرة لإنهاء دوامة الدم، ومن رآها خيانة للعروبة، كان السادات يرسم طريقًا جديدًا للشرق الأوسط.
وبعد عامين، وقّع اتفاقية كامب ديفيد برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، ليُعيد لمصر سيناء، ويُعيد لإسرائيل الاعتراف العربي الأول، ويُعيد على نفسه العزلة العربية التي قادها صدام حسين ومعظم القادة العرب.
ومع أن الاتفاقية أوقفت الحرب، فإنها أطلقت جدلًا فكريًا وسياسيًا ما زال قائمًا حتى اليوم:
هل كسبت مصر السلام؟ أم دفعت ثمنًا باهظًا للوحدة العربية؟
ثم جاءت حادثة سقوط طائرة المشير أحمد بدوي عام 1981 — ومعه أكثر من 40 ضابطًا — لتفتح باب الشكوك حول نية السادات في إبعاد القيادات العسكرية المعارضة لتوجهه السياسي الجديد.
مبارك… سلام بارد ودبلوماسية الصبر
حين اغتيل السادات، تولى الرئيس حسني مبارك الحكم في لحظة غليان داخلي وخارجي. ورث اتفاقية سلام ناجزة لكن بلا دفء، فاختار السلام البارد كأداة توازن.
لم يلغِ الاتفاقية، ولم يوسّعها، بل أبقاها في مستوى أمني محدود.
في الوقت ذاته، أعاد مصر تدريجيًا إلى حضن النظام العربي عبر القمم والوساطات، مستعيدًا جزءًا من ثقة العواصم التي خاصمت القاهرة بعد كامب ديفيد.
خلال عهده، أصبحت الاتفاقية إطارًا لإدارة الحدود وتأمين سيناء، لا وثيقة استسلام.
فمبارك كان يدرك أن الانسحاب الكامل من المعاهدة يعني حربًا جديدة، وأن الصبر الدبلوماسي هو السلاح الأذكى.
وقد استخدم هذا الهدوء في دعم القضية الفلسطينية سياسيًا وإغاثيًا، من دون الدخول في مواجهات عسكرية خاسرة.
من الاضطراب إلى التوازن… رؤية السيسي الجديدة
بعد ثورتي 2011 و2013، وجدت مصر نفسها في منطقة تشتعل بالإرهاب والفوضى، بينما تتغير التحالفات في كل اتجاه.
تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، اتخذت القاهرة مسارًا أكثر براجماتية في التعامل مع اتفاقية السلام.
لم تعد كامب ديفيد مجرد التزام سياسي، بل ورقة استراتيجية لحماية الأمن القومي المصري.
تم تعديل بنود الانتشار العسكري في سيناء باتفاق متبادل مع إسرائيل والولايات المتحدة، بما يسمح بتوسيع الوجود المصري في مناطق “ج” و“ب” التي كانت سابقًا محدودة السلاح.
انتشرت القوات المصرية على محور فيلادلفيا ورفح، وتم بناء منظومة مراقبة إلكترونية وأنفاق دفاعية لمحاربة الإرهاب وتهريب السلاح.
في المقابل، حافظت القاهرة على قناة اتصال دبلوماسية مفتوحة مع تل أبيب وواشنطن، ونجحت في لعب الدور الرئيسي في الوساطة بين إسرائيل وحماس في كل جولات التصعيد الأخيرة، خصوصًا في حرب غزة 2023–2025.
لكن الأهم أن مصر استخدمت الاتفاقية كأداة لاستقلال قرارها: فهي لا تُدار من واشنطن، ولا تُناور من تل أبيب، بل تُوازن وفق مصالحها أولًا.
وهنا يمكن القول إن السيسي حوّل السلام من ورقة سياسية إلى منظومة أمنية واقتصادية متكاملة تصون الحدود وتفتح المجال للتنمية في سيناء.
لو اتحد العرب… كيف كان سيكون المشهد؟
يبقى السؤال التاريخي الأهم:
ماذا لو أن العرب لم يقاطعوا السادات، بل جلسوا معه على مائدة كامب ديفيد؟
ربما كانت تسوية جماعية شاملة كفيلة بفرض حدودٍ عادلةٍ لإسرائيل ومنع تمددها لاحقًا، وربما جنّبت المنطقة حروبًا لاحقة في لبنان وغزة وسوريا.
لكن الانقسام العربي جعل إسرائيل تفاوض كل دولة وحدها، فانتقلت من سياسة الردع إلى سياسة التوسع الذكي، حتى عادت اليوم تتحدث صراحة عن حدودٍ تمتد “من النيل إلى الفرات”.
السؤال الملح
رحلة مصر من ناصر إلى السيسي ليست مجرد انتقال بين رؤساء، بل تحول عميق في فلسفة الدولة بين المواجهة والمصلحة.
دفعت مصر ثمنًا باهظًا لتصل إلى معادلة متزنة بين السلاح والدبلوماسية، لكنها خرجت من كل اختبار أقوى وأكثر وعيًا بحدود قوتها ودورها.
ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على كامب ديفيد، لا يزال السؤال مطروحًا أمام الضمير العربي:
لو أن العرب وقعوا مع مصر على اتفاقية سلام موحدة، هل كانت إسرائيل ستحترمها، أم كانت ستواصل مخططها التوسعي من النيل إلى الفرات؟
وهل كان غياب حركات المقاومة مثل حماس سيمنع الصراع، أم كان الصراع سيتخذ وجهًا أوسع وأكثر خطورة في سعي إسرائيل لتحقيق حلمها التاريخي؟